قصة اجتماعية: نظرة مغترب
لا زلت أتذكر ذلك اليوم الذي كان في نهاية السنة الرابعة اعدادي ، لقد كنا نكثف المذاكرة و هدفنا المنشود كان بلوغ الثانوية ، كنا أيضا نتوق للذهاب الى الولايات الجزائرية لاستكمال الدراسة ، فنحن فقط نسمع من الأجيال التي تسبقنا عن مغامراتهم هناك ما يزيد من شوقنا ، كأننا ستكتشف شيأ جديدا ، أخيرا سنسافر إلى "الجزائر" .
و قد كان أستاذ اللغة الاسبانية آنذاك هو من يدرسنا، رجل في الخامس و الاربعين من العمر تقريبا ، كان يسكن في اسبانيا ثم عاد منها نهائيا و شرع في التدريس في اقرب إعدادية من منزله .
كنا دائما نضحك فيما بيننا و نقول ، حقا إنه لمجنون، من يترك اسبانيا بلد الرفاه و التطور و يأتي للتدريس في هذه "لحمادة"؟!.....
كنت متيقنة من أنه يسمعنا دائما و لكن يتجاهل ما يسمعه بحكم اننا أطفال لم نفهم بعد الحياة جيدا ، و لكن ما العذر للبالغين الذين يضايقونة بين الفينة و الأخرى بهذا النوع من الكلام ؟!
نعود لليوم الذي ذكرته آنفا، كنا قد فرغنا من المقرر الدراسي و صححنا بعض التمارين و لكن الوقت مازال فوقت الدراسة نادرا ما يكون سريع المرور خاصة بالنسبة لنا نحن الطلاب.
ساد نوع من الصمت و الضجر في انتظار مرور نصف ساعة تقريبا لتنتهي الحصة و نخرج .
لكن أستاذنا وجد فسحة فارغة أمامه لشرح ما يبتغي ، قاطع افكارنا التي تسبح في كل اتجاه بقوله : هل أنتم متحمسين للسفر للولايات الجزائرية؟
فقلنا بدون تردد: نعم ،بالتأكيد
وأردف قائلا : إذن أنصتو لي جيدا يا أبنائي ، و قبل أن أبدأ تذكروا أنني أدعمكم دائما و أبدا في طلبكم للعلم فكما يقال "اطلبوا العلم و لو في الصين" غير أني أريد أن تتضح لكم الصورة قليلا كي لا تصطدموا بواقع ليس بالهين.
إني يا أبنائي قد تبادر إلى مسمعي ما تقولونه من سخرية حول رجوعي من اسبانيا إلى هنا .
فقلنا : هذا لا يمكن يا أستاذ نحن نحترمك و نقدرك جدا
فقال : انصتو فحسب يا أبنائي فإن غايتي ليست عتابكم بقدر ما هي نصحكم .
ثم اكمل ، حسنا يا أبنائي لأقرب ما اقصد لأذهانكم سأحكي لكم قصة رجل مغترب ، كان على طول سنين مشتت بين دول المهجر و المخيم بين كر و فر بينهما.
عاد مرة الى المخيمات ،لقد حفظ الطريق بمختلف تضرايسه من كثرة السفر ، لقد امتلأت ذاكرته بتلك التضاريس و ذكرياتها ، يوجد هنالك أشياء أولى بأن تستوطن ذاكرته، لم يعلم لماذا تفطن لهذا هذه المرة فقط.
أخيرا وصل إلى بيته أو بالأحرى إلى فندق سيقيم فيه لمدة شهر و يرحل ، ما أرمي إليه بفندق هو من ناحية مدة الإقامة و ليس من ناحية المزايا ، و كالعادة استقبلته عائلته و أطفاله بشوق كبير ، و كأن كل منهم حينما أشتاق إليه على مدار العام خبأ شوقه إلى شهر اللقاء، هو أيضا إستولى الشوق على مشاعره وشاركته الفرحة اللحظة، لكن الحزن وجد منفذ و دخل هو الآخر ، لكن هذا الحزن كان بينه و نفسه، لقد حبس دموعه عندما رأى بعض أطفاله صارو أطول منه و بعضهم تغيرت ملامحه ، انا لا أعلم لماذا لاحظ ذلك هذه المرة فقط ،هو أيضا لا يعلم لماذا، لا تظنوا أن نموهم هو ما يحزنه إنما تغيرهم دون حضوره ، ثم تناسى ذلك فهذا شهر واحد ينبغي أن يخلو من الحزن ، و بينما هم مجتمعين يصنعون الشاي ، إذ بهم يتذكرون يوم وضعت إبنتهم الملح مرتين و كان عندهم ضيوف ، لقد كانت اول مرة تطهو ،ثم ضحك الجميع هو أيضا ضحك معهم ، ثم تذكروا أيضا اليوم الذي هربت الغنم من الحظيرة و كلما أدخلو بعضا منها تسربت البقية حتى حل الظلام و تذكروا الكثير .....، تارة يضحكون و أخرى يتأثرون و هكذا ...، كان يحاول بجهد كبير ان يعيش معهم اللحظة و يبدي ردات فعل تشبههم لكنه في النهاية استسلم ، كيف يمكن أن يفوته كل هذا من ذكريات عائلته ، هو لديه ذكريات فقط تخص السفر و العمل ....،لقد أصبح كالحاضر الغائب ، انهمرت دموعه ، ربما يستطيع نسيان ما فات من سنوات الغربة، لكن هل يستطيع تحمل فكرة أن هذا هو مصيره دائما إذا أراد كسب لقمة عيش كريمة؟
هل تقرب إلى أذهانكم القليل مما اريد شرحه ؟
فقلنا: نعم يا أستاذ ، هذا حقا شيئ مرير
فقال يا أبنائي اتعلمون؟ ، إن هذا الرجل هو أنا ،
لكن انا ما ساعدني هو كوني اتقن فقط اللغة الإسبانية ، ففكرت في التدريس و الخلاص من هذه الحياة
قلنا : وفقك الله
لكن غيري كثير لم يجد فرصة عمل ليصبح مصيره تلك الحياة التي عنوانها السفر و الغربة.
نعم يا أبنائي هكذا هي الحياة عندنا فلكي تعيش حياة كريمة و تكسب ما تعيش به عائلتك عليك ان تتجرع مرارة فقدهم و هم أحياء يرزقون ، أن تضحي بلحظات لا تعاد مرتين في حياتك ، نعم هكذا الحياة عندنا ، و لكن من نحن ؟!
يا أبنائي نحن اللذين هم بلا وطن، بلا ذكريات ، وبلا حياة.
يا أبنائي انا أأيدكم على السفر لطلب العلم لكن ما آمل هو أن يكون تعلمكم هو من يكبح هذه المعاناة عنا بإن الله، هو من يأخذنا لأرضنا ،بحيث الأمن و الاستقرار و السلام .
و ما لبثنا حتى رن الجرس لقد انتهى الوقت بلمح البصر
فقال أبانا بدل أستاذنا : أنتم يا أبنائي تمثلون ما تبقى لنا من أمل فلا تخيبوه ، ثم خرج .
إنتهت تلك النصف ساعة و بقيت محفورة في ذهن كل واحد منا ، ربما علمتنا ما لم نتعلمه في عام دراسي كامل!.
منذ ذلك اليوم و نحن ندرس ليس من أجلنا بل من أجل ذلك الأستاذ، تلك الأم ،ذلك الأب ،أولئك الأطفال، أولئك الشيوخ، و أولئك الجرحى .....
ندرس لنكون، لنعيش، لنبني ما لم نجده أمامنا و ما هدم قبلنا.
مشاركة بإسم : محفوظة أحمد
ماجمل تلك المشاعر ألتي اردتي طرحها لنا، هذا الإخلاص الذي مر عليه الكثير من السنين ولآزلتي تحافظين عليه، حتى انك نثرتي للعالم قصة ذالك البطل، ذالك للأستاذ بل الأب، الذي جعل منكم شباب طموح لمستقبل أجمل.
ردحذفكلماتك رائعة في معانيها فكم استمتعنا بسحر قلمك الذي ليس له مثيل.
اختي محفوظة لقد ابدعتي فدمتي و دام عطائك...