> قصة اجتماعية : إني جريح - قصص من واقع المخيم

إعلان اعلى المقالة

إعلن هنــــا

الأحد، 29 مارس 2020

قصة اجتماعية : إني جريح


قصة اجتماعية : إني جريح

قصة اجتماعية : إني جريح 

في فجر ذلك اليوم استيقظتُ مع الأذان الأول دون منبه للمرة الأولى تقريباً، سحبت عني الفراش و ذهبت لأتوضأ بخطوات مُتثاقلة كعادتي، بعد الفراغ من الوضوء ارتديتُ معطفي الأسود و هممت بالذهاب للمسجد.

كان الجو شديد البرودة و الرياح الشرقية (الساحْلية) تهبّ بعنف لتعطي الجدران فسحة التعبير عن مشاعرها تحت جناح الظلام فالشتاء في المخيم لا يرحم حتى الجماد، و بعد مسيرة دقائق و بعد أن قيّد البرد حركتي وصلتُ و لله الحمد المسجد الدافئ كما تعودت من بيت الله.

كان المسجد خالِِ فالجميع ينتظر الأذان الثاني لكن بعد دخولي لاحظتُ أحدهم يجلس بالركن الخلفي للمسجد يقرأ المُصحف بصوت خافت، إنتابني الفضول على غير العادة أن أعرف من يكون فأنا خبير بسكان دائرتي، ذهبت و عند اقترابي منه رأيته رجلاً كبيراً في السن غزى الشيب رأسه ثيابه بآلية لا يرتدي سوى "دراعة" و سروالها مع قميص مهترئ و لثام أسود يلتف حول عنقه تظهر من تحته لحية ناصعة البياض بجنبه رفيقه الوحيد و هو عصاه الخشبية و لم تراه عيني مُسبقا، تبادلنا التحية و جلست لجانبه، وددتُ أن اسئله أسئلة جمى لكني آثرتُ الإحتفاظ بها إلى أن نخرج من المسجد، هنيهة بعد جُلوسي لاحظت رعشة جسمه الخفيفة المتواصلة بالرغم من أن الركن أدفءُ بقعة بالمسجد فسألتُ :أهذا من البرد؟ ،قال: لا، إنه المرض يا بني. فسألته مجددا: أتشعر بالبرد إذا؟، قال: لا...لا قليلا فقط . عرضت عليه معطفي مباشرة فتردد في البداية كعادتنا نحن الصحراويين لكنّي ألححتُ عليه فارتداه، شعرت بالبرد بعض الشيء لكن لا ضير إن كان من ارتداه هو ذلك الشيخ.

بعد فراغنا من الصلاة ذهبت للرجل بمنأى عن الناسِ و سألته أن يكون بضيافتي بعد ساعات فقبِل و قال: إن شاء الله، شكرا لك. بالرغم من أنها أول مرة نلتقي إلا أني أحب مجالسة كبار السن تلك الشريحة المنسية من المجتمع، تلك الأوجه البشوشة و الحكايات الخفية وراءها، جهّزت خيمة أهلي (اگيطون) لإستقبال ضيفي الغريب و إن كان من المحتمل أنه لن يأتي لكن كان لدي شعور بداخلي يخبرني عكس ذلك .

بعد بضع ساعات جاءني الكهل كما كنت أتوقع ،يدٌ تتكئ على العصى و بيده الأخرى يحمل معطفي! ، تبادلنا السلام و أعطاني المعطف فأحسست أنه كان مُبتلا قليلاً فقال: إعذرني لقد غسلته لك و لم أجد أين أعلّقه فحملته بإتجاه الشمس و أنا بالطريق لعله يجف و لو بالقليل فأنا جريح حرب، لدي مأوىً متواضع و لا أزال عاجزاً مادياً. لامس كلامه فؤادي ليتركني حائراً بخجل، بعد أن جلسنا بالخيمة لنصنع الشاي لاحظت أمراََ آخر و هو قدمه الوحيد فسألته عن أمرها فأجاب: إنها من آخر معاركي في جيش التحرير الصحراوي، لقد بقيت بالمستشفى ما يقاربُ الشهر و أنا مُعلق القدم على إثر هذا الجرح، يا بُني هذا الجرح هو الرابع لي بحرب التحرير ،أُصاب بواحدِِ و أُشفى فأعود لساحات الوغى إلى أن استوقفني الجرح الأخير و قال "كفى!، إنها لنعمة إن استطعت السير أو الحياة من بعدي"، فلم تنتهي الحرب إلا و قد بلغ الحديد بجسدي المُنهك ما بلغه حتى بِتُّ أقرب لإنسانِِ من حديد ناهيك عن مختلف المشاكل المزمنة التي تعرضتُ لها في سائر أجهزة جسمي.

خاطبته قائلاً: إنك حقاََ لرجل من حديد، فما كان مآلك بعد كمّ المعاناة هذا؟. قال: لقد صبرتُ لله، كانت ثقتي بالله تتعدى الحدود، فسَيهَبُ لي ربي من أبناء مجتمعي من يكفلني بعد عجزي و كِبر سني، سيُعاملوني كالبطل بينهم فأنا من حمل السلاح دفاعاً عنهم فأكيدٌ جزائي عظيم بعد أن افتديت تحريرهم بريعان شبابي... لكن هيهات، إتضح أنه وهم نسجْته في مخيّلتي، ها أنا بعد أن تخلى عني الجميع أُكافح مع جسدي لعلي أبتغي في الأرض من فضل الله ، لقد أمسيتُ شخص منسي تماماً حتى أنت أظنك لا تعرفني بالرغم من أنك قضيت عمرك معي بالدائرة و لا ألومك على ذلك أبداً، خذلني المجتمع لكنَّ ربي لم يفعل، ما يجعلني أقف و أسعى اليوم هو ثقتي بالله، إستطعت السير و الحياة من بعد تلك الحادثة، أداوم زيارة بيت الله كل يوم، أنا لدي الله ،يمنُّ على بنعمه الظاهرة و الباطنة و لم أندم يوماً على ثقتي بربي، ذنبي الوحيد هو أني جريح، يبدو أن الجسد أضحى شرطاً أن يكون كاملاً لكي يحتويك المجتمع.

كانت البشاشة قد استُبدلت من على وجهه بملامح حزن و أسى ،فقلتُ: لكن ألست أحقّ شخصٍ بالعيش الشبه الكريم في هذا المخيم؟!؟. قال ببرودة و حزن: من سيلتفتُ لكهل بآخر عمره يعامله أولاد الحي على أنه مجنون بدل كونه بطلاً كما كان يحْلم؟. قلت: ....
------------------------______________---------------------

فجأة أرفع رأسي مسرعاً من على وسادتي و أنا أتنهد كأني توقفت للتو من العدوِ لأميال... نعم لقد تذكرت لقد أخذت قيلولة منذ نحو ساعتين، يا إلهي ما هذا الحُلم؟!؟، من كان ذلك الكهل؟!، لماذا ألقاه بالمسجد و ليس أي مكان آخر!؟، ما بال تلك التفاصيل؟!، أنا لا أتذكر أني أملك ذلك المعطف أو أقوم باكراً لصلاة الفجر أو حتى أن ذلك المسجد هو مسجد دائرتي حقا لكني على يقين من أن ذلك الرجل موجود بمكان في هذا المخيم أو هو مزيج من جرحى الحرب بالمخيم جائني بالمنام يشكو إلي بقوله "إني جريح"... أظنه كان الواقع بهيئة حلُم.


مشاركة بآسم : عالي احمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان

إعلان أسفل المقالة

إعلان متجاوب هنا

تواصل معنا

تغروين

من أنا

author موقع قصص من واقع المخيم هو منبر لمشاركة القصص من واقع المخيم باللغة العربية و اللهجة الحسانية.
أعرف المزيد ←

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

جميع قصص من واقع المخيم