قصة اجتماعية : دموع مقاتل.......... الغام بذاكرتي رحلتْ
إن أخاك الحق من كان معك
ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمان صدعك
شتت فيه شمله ليجمعك.
أبيات لطالما نالت اعجابي وكنت دأئما ابحث عن المعنى الحقيقي لصديق المذكور في ثناياها...... فكانت هاته القصة تفسير عميق لمعنى أخرى لصداقة.....!
كنت أمشي بجانب الطريق المعبد الطويل الذي يقسم ولاية اوسرد الى نصفين نصف غربي واخر شرقي، الخيم متناثرة عن يمينه وعن شماله، بيوت طينية اختفت وراء مباني الاسمنت الحديثة، القليل من السيارات تتحرك في وقت الظهيرة، كنت امشي وحدي من برج المراقبة الغربي"الكنطرو ساحلي" بإتجاه برج المراقب الجنوبي، كمعظم شباب المخيم الذين لا يقدرون على دفع ثمن سيارة الاجرة ، كنت أتسول بين محطة ومحطة اقف عند كل شارع ألوح بيدي لعلى وعسى يتوقف احدهم ويكسب اجر وراء ذالك.
جالس عند برج المراقبة الجنوبي "الكنطرو الگبلي" .نقطة العبور بين ولاية السمارة و ولاية أوسرد كنت اجلس وحدي اراقب الطريق لعلى الله يرزقني بسيارة تنتشلني من حرارة الجو فقد مللت الانتظار.
في الاتجاه الغربي كنت اشاهد شخص ما يتمايل ويضحك وحده، كان يتلفظ بكلام غير مسموع، كان لباسه العسكري رث و متسخ وقف بجواري وقال :
ماشفتلي الحسين!؟ حكلا ماشفتلي الحسين؟
منلا مانعرفو ولا شفتو...
انت تعرف بلاصتو يالها نعتلي بلاصة الحسين . !
ثم اخذ يشد على يدي و يعض على قميصي ويقول :
منين مخزن عني الحسين! گول منين الحسين!
بدأت انتفض ودفعته بكل قوة عني ثم صرخ احد العساكر الذين يحرسون برج المراقبة وقال :
الحسين اراهو عند الخيمة، اراهو يحانيك !
ثم قام ذاك الرجل يضحك ويبتسم وتغير وجهه، وبدأ يردد :
الحسين جا ....الحسين جا..... الحسين جا،
كأنه طفل صغير وجلس وهو يكررها ويضحك ويبتسم
ثار هذا الموقف فضولي، وتجهت نحو العسكري لمعرفة قصة الحسين وعلاقته بهذا المجنون!
كان يجلس على كرسي في ظل البيت الصغير، شاب معتدل القوام يرتدي لثام ابيض يقيه حر الشمس وامامه قارورة ماء باردة، وقفت امامه وبدأت بالتحية
السلام عليكم كيف الحال
لتفت نحوي وأشعل سجارة كانت في يديه وقال
وعليكم السلام تفضل
اسف على التطفل لكن انت بالتأكيد رأيت الموقف الذي كنت فيه مع هذا المجنون، اريد فقط ان اعرف قصة الحسين!؟ ومن هو هذا المجنون وماهي حكايته!؟
انظر اليه، ألا ترى انه نحيف وهزل ومتسخ ورث الثياب ومجنون
نعم أرى ذالك
صدقني لم يكن كذالك، فبعد انطلاق ثورة التحرير وبداية الحرب مع المملكة المغربية ،كان المحجوب وهو هذا المجنون الذي امامك جندي ومقاتل تابع لناحية العسكرية الثانية، كان رجل عريض الكتفين، عضلاته بارزة و جهه عريض وجسمه متناسق، كان شجاع ولايخاف الموت ، كان معروف بصرخته المفزعة التي تخيف الجنود المغاربة، كان أحيانا ينفذ العملية وحده، لم يكن يخاف من الحرب ولا من رأيت الدماء ولا القنابل، رغم هذا كان وحيد لم يكن يحب الختلاط بالناس، كان كما نقول بالحسانية "ظاحك فرجالا" شاك عن مافگرش منو حد..!
، وهو كذالك كان لا ينام الا ساعة او اثنتين يطبخ ويصنع شاي ، ويخطط ويقاتل ويحرس المجموعة في الليل!
جميل جدا، لكن ماعلاقته بالحسين!!؟
الحسين كان صديقه الوحيد، كان يراه الشخص الوحيد الذي يطلق عليه اسم رجل، كان الحسين رجل شهم ومقاتل صنديد لا يخاف العدو، يحارب في الليل ويقتحم الربط رغم علمه لوجود كميات كبيرة من الالغام هناك، كان يدخل على الثكنات العسكرية المغربية ويتجسس ويسمع كلامهم واحيانا وصلت به الشجاعة ان سرق عليهم وجبة العشاء من مطبخهم وهم يتسامرون بالقرب منه ولم يتفطنو لذالك!
لقد تعلم المحجوب من الحسين كل فنون الحرب لانه كان اكبر منه سناً ويملك تجربة ميدانية اكثر منه، علمه شجاعة وعدم الخوف، علمه الرجولة، وقبل ذالك علمه معنى الانسانية فبعد ان قرر المحجوب الزواج أخبر صديقه الوحيد الحسين بذالك ولكنه لم يكن يملك المال لزواج، فقام الحسين واعطى له كل مايملك من مال من اجل ان يتزوج صديقه برغم انه كان هو ايضا يريد الزواج لكنه فضل زواج وفرح صديقه المحجوب على زواجه وفرحه!
المواقف كثيرة لا يمكنني حصراها في جملة او جملتي.........
ثم يتقدم المحجوب -المجنون- منا ويقاطع حوارنا ويقول
انت ياك متاكد عن الحسين عند الخيمة يحانيني!!؟
يهيه عند الخيمة ،واراهو الا يحانيك!!!!!؟
ثم يبتسم ويضحك ضحكة طفل بريئ ويرجع الى مكانه وهو يغني :
الحسين جا... الحسين جا..... الحسين جا
في فضول تام قلت للعسكري شاب، واين هو الحسين ولماذا يبحث عنه!!؟
في اخرة معركة للجبهة اظن كانت في 1988 ، كان القتال مباشر بين جنود الاحتلال و قوات اللجبهة الشعبية، كان المحجوب والحسين يقاتلان جنبا الى جنب، المحجوب بصراخه المخيف و الحسين بشهامته ورجولته يتقدم المعركة دون خوف كانت جل المعارك تعتمد على الكر والفر، فبعد انتهاء العملية، سارعوا الى الخروج من "الربط" بسرعة والرجوع الى المواقع قبل الفجر، كانوا اربعة في المعركة استشهد اثنان و لم يبقَ الا المحجوب والحسين ، في تلك المسراب الضيقة قرب "الربط" كان الحسين يمشي اولا وخلفه المحجوب ثم توقف الحسين ونظرا الى المحجوب وقال له :
امشي اسگم مع شارع الثاني ولا تمشي مع ذا شارع واراني تابعك ...
فظن المحجوب ان الحسين يريد قضاء الحاجة، فتوجه الى الشارع الاخر وماهي الا للحظات حتى سمع انفجار كبير، فهرولة وركض بكل قوة نحو صوت فلم يجد الا شتات عظام رفيقه الوحيد، لقد كان يتقدم قبله لمعرفته لوجود الالغام في تلك المنطقة وعندما شعر انه وقف على الغم لم يرد ان يخيف صديقه بل خاف عليه من ان تصبه شظايا اللغم و يتضرر او يصيبه مكروه، فستشهد هو من اجل ان يبق صديقه حي معافى!
ظل المحجوب يبكي ويجمع شتات عظام صديقه، ثم توجه نحو الناحية العسكرية الثانية، وقص عليهم الحادثة وهو في حزن وكرب لا يعلمه الا الله. وجمع بقية عظامه و وضعوهم في قبر خاص!
للاسف قصة محزنة للغاية، لكن لماذا دائما يسأل عنه !
بعد ايام من العزلة والوحدة لم يعد يتكلم مع احد بدأت تظهر عليه علامات الجنون
كيف يعني؟
صباح كل يوم يذهب الى جماعته يسأل عن الحسين!!!! ثم يذهب الى قائد الناحية ويسأله
اين الحسين هل مازال في الترخيص في المخيم!؟
ثم تطور الامر وبدأ يسأل كل شخص يجده في الناحية ، ويقول
ماشفتلي الحسين، ماگط جبرتو عنو اخبار كانو جا من المخيم!؟
لقد صُٰدم في صديقه الوحيد ولم يتقبل فكرة موته ربما لم يعد يصدق انه مات، بل ربما من شدة الصدمة اختفت تلك الحادثة من دماغه ولا يريدها ان ترجع ! وظل يحلم برجوع صديقه ولا يريد ان يصدق انه استشهد!
بعد ان شعر قائد الناحية بمرضه وذهاب عقله، قدم له وثيقة تأمين وترخيص واعفاء عن العمل وذهب الى اهله....!
عند رجوعه الى اهله بدأ يسأل كما ترى عن الحسين! واياك ان تخبره انه مات او استشهد!
لماذا؟
حين تخبره بذالك يدخل في موجة جنون حاد و ربما يقتلك فهو لا يتقبل فكرة ان صديقه الوحيد استشهد!
هل تعلم لقد بحث عن صديقه الحسين في كل مكان، لن تصدقني ان اخبرتك انه ربما سأل كل مواطن صحراوي عن صديقه الحسين! لقد سأل وبحث عنه في كل مكان الا المقابر!!! هو يخاف ان يذهب الى المقابر ليس خوفا من فكرة الموت لكن لا يريد ان يشاهد يوما إسم صديقه مكتوب على احد صخور القبور!!!
وقفت وانا بالكاد استطيع التنفس لقد شعرت برغبة كبيرة في البكاء، لقد تأثرت مع قصة المحجوب وتعاطفت معه وشعرت بقيمة الصداقة والمعنى الحقيقي لكلمة صديق.
تقدمت و وقفت امام المحجوب وانا اصطنع ابتسامة زائفة وحزينة وجدته مازال يردد
الحسين جا...... الحسين جا..... الحسين جا
قلت له بعدما نظر الي وهو مازال يبتسم ويضحك
المحجوب حاني نسولك
هو الحسين شكون!!!؟
توقف عن الضحك والابتسامة، وبتلع ريقه، ونظر الي نطرة حزينة جدا، ثم صمت وسكت طويلا ثم قام بالبكاء، كان بكاه مخيف وحزين، ربما كان سؤالي بالنسبة له عميق لدرجة انه عحز عن تفسير ماذا يمثل الحسين له، لقد
فتش عن اجابة عن سؤالي ولم يجد معنى للحسين عنده! ربما كان الحسين بالنسبة له معنى عميق لم يستطع اخراجه! ربما تذكر حادثة الحسين وتضحيته من اجله وبدأ يبكي!
دار ظهره و إلتفت شرقا ودخل في موجة بكاء و بدأ يبحث عن الحسين في ذاكرته القديمة ربما سيجد معنى للسؤال من هو الحسين!؟
ركبت في سيارة اندروفر من الوراء وانا مازلت اراقب المحجوب وقصته الحزينة التي علمتني معنى جديد للصداقة الذي حين تسأل عنه لا تجد جواب سوى الصمت والبكاء ...
_—–—النهاية_—–—
تحياتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق